سجن السلفادور السري الكبير

كان لدى أنجيليكا هاجس داخلي بمكان وجود زوجها المفقود داروين. لكن لقطات رسمية مصورة، شاركتها الحكومة وحملتها على وسائل التواصل الاجتماعي أكدت شكوكها.

وأثناء مرورها عليها بعناية فائقة، وتفقدها لها لقطة بلقطة، شاهدته بعد مُضي 25 دقيقة من الفيلم المصور، وهو يصافح زميله في الزنزانة. ضغطت على زر الإيقاف ثم زر الإعادة إلى الوراء وأعادت التدقيق في اللقطة.

وعلى الرغم من أن رأسه كان حليقاً، ولم يكن يرتدي شيئاً سوى "شورت" أبيضاً الذي تنص عليه اللوائح، إلا أنها لم يُراودها الشك من أن هذا الشخص هو داروين، الذي لم تره منذ اعتقاله قبل 11 شهراً.

وكان هذا هو دليلها الأول على أنه قد نُقل إلى سجن السلفادور الكبير سيء السمعة، المعروف باسم مركز حبس الإرهاب (سيكوت)، والذي افتُتح في يناير/ كانون الثاني من قبل رئيس البلاد، نايب بوكيلي، في تيكولوكا، الواقعة على بعد 74 كيلومتراً إلى الجنوب الشرق من العاصمة سان سلفادور.

أصبح سجن سيكوت رمزاً لحرب الرئيس بوكيلي سيئة السمعة "ضد العصابات"، والتي قالت وزارة الأمن في البلاد إنها أسفرت عن احتجاز 68,000 شخص على الأقل منذ بدء الحملة في مارس/ آذار 2022.

هناك الآلاف من السلفادوريين الذين لم يسمعوا من أقربائهم المحتجزين منذ شهور، والذين، على غرار أنجيليكا، يبحثون عنهم في مقاطع الفيديو أو الصور أو - في حالة أولئك الذين يقبع أحباؤهم في سجون إجراءاتها الأمنية أقل- من خلال النظر عبرالثقوب الصغيرة في جدران السجن.

لكن حالة الطوارئ التي أعلنها الرئيس بوكيلي، في بلد أصبح واحداً من أكثر البلدان عنفاً في العالم، تحظى بشعبية كبيرة على المستوى المحلي. ففي استطلاع للرأي أجرته شركة "سي آي دي غالوب" في يناير/ كانون الثاني وشمل 1,200 مواطن، قال إن 92 في المائة من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع لديهم "رأي إيجابي" برئيسهم.

إن ما يغذي شعبيته بشكل أساسي هو الانخفاض الكبير في الجرائم المسجلة منذ تولي حكومته مقاليد عملها. وأكد الكثير من السلفادوريين على هذا التغيير، وبخاصة في الضواحي والأحياء التي كانت خاضعة في السابق لسيطرة العصابات، التي سعت إلى ترهيب السكان المحليين بشعار: "شاهد، اسمع، اخرس". والآن يمكن للسكان أن يعبروا حدود سيطرة العصابات بدون مضايقات أو خوف من الانتقام.

تقول حكومة السلفادور إن سجن سيكوت يمكنه استيعاب ما يصل إلى 40,000 سجين سيكونون حصرياً من الأفراد رفيعي المستوى في العصابتين المتنافستين وهما - مارا سلفاتروشا (إم أس - 13) وباريو 18- واللتين أدت الحرب بينهما إلى عقود من الرعب وسفك الدماء في السلفادور.

لم يُسمح لبي بي سي مراراً بدخول سجن سيكوت، لكنها أعادت بناء تفاصيل السجن باستخدام مقاطع الفيديو والصور التي نشرتها الحكومة ووسائل الإعلام التي منحت إذناً بدخول السجن قبل افتتاحه، والمقابلات مع المسؤولين السلفادوريين ووثائق أطلعنا عليها أحد المهندسين - بشرط عدم ذكر اسمه - والذي كان مشاركاً في بناء السجن.

يضم سجن سيكوت 256 زنزانة

وحيث إن طاقته الاستيعابية هي 40,000 سجين فإن كل زنزانة ستضم 156 سجيناً إذا لم يتم بناء مبانٍ جديدة.

الأسرّة هي عبارة عن ألواح معدنية بدون "فرشات" للنوم.

السقف عبارة عن شبكة على شكل معين- حيث تتيح الثقوب للحراس مراقبة السجناء، وأما شبك الحراسة فهو مصنوع من معدن حاد لمنع السجناء من التدلي منه.

كل زنزانة فيها حوضان للسجناء من أجل غسل ملابسهم وللاغتسال و مرحاضان يفتقران لأي شكل من أشكال الخصوصية.

لا توجد نوافذ أو مراوح أو أجهزة تكييف للهواء على الرغم من درجات الحرارة المرتفعة والرطوبة العالية على مدار العام.

وتقول السلطات إن السجناء لن يغادروا زنازينهم إلا لحضور جلسات الاستماع عبر الإنترنت أو من أجل الحبس الانفرادي .

والمساحة التي سيحصل عليها كل سجين في الزنازين المشتركة ما تزال من بين الأمور المجهولة. وتشير المخططات التي رأتها خدمة بي بي سي موندو أن أبعاد كل زنزانة ستكون 7.4 متر في 12.3 متر، أو 91.02 متر مربع - وهذه المساحة ستمنح لكل سجين عندما يكون السجن في كامل طاقته الاستيعابية حيزاً يبلغ 0.58 متر مربع. ويوصي الصليب الأحمر بتخصيص مساحة 3.4 متر مربع لكل سجين في زنزانة مشتركة كمعيار دولي.

وذكرت السلطات السلفادورية أنها لا تتوقع أن يتم إطلاق سراح السجناء من سجن سيكوت على الإطلاق.

من غير الواضح بشكل دقيق عدد السجناء الموجودين حالياً في سيكوت. فالسلطات لم تعلن على الملاْ إلا عن عمليتي نقل للسجناء حتى الآن - ضمت كل واحدة منهما 2000 سجين.

لا توجد مساحة خارجية للترويح عن النفس، ولا يُسمح بالزيارات العائلية، كما تقول السلطات. وهذا يخالف القواعد الدولية الخاصة بحقوق السجناء.

لم يتم الإفصاح علناً عن معايير الاحتجاز في سيكوت، ومن غير الواضح ما إذا كان السجناء احتُجزوا حديثاً أو نقلوا من سجون أخرى.

ولا يُعرف الكثير حول كيفية إطعام السجناء أو الاعتناء بهم. فلم تُنشر أي مخططات أو صور للمطبخ أو غرفة الطعام أو متجر أو مرافق للاعتناء بالعجزة.

تقول السلطات إن سيكوت يحتوي على أنظمة أمن وأجهزة مسح دخول حديثة، وشبكة مراقبة واسعة وغرفة سلاح مجهزة بشكل جيد.

وقال ميغيل ساري، وهو عضو سابق في اللجنة الفرعية التابعة للأمم المتحدة لمنع التعذيب، لبي بي سي إن السجن "عبارة عن حفرة كبيرة من الاسمنت والفولاذ حيث هناك حسابات فاسدة للتخلص من الأشخاص بدون تطبيق عقوبة الإعدام رسمياً عليهم".

ويوافق على ذلك أنطونيو دوران، وهو قاض رفيع المستوى في مدينة "زاكاتيكولوكا وأحد القضاة القلائل الذين ينتقدون صراحة نظام الطوارئ الخاص بالرئيس بوكيلي.

ويقول: "في دولة تعمل وفق سيادة القانون، فإن الحرمان من الحرية هو العقاب. فالمجرم يعاقب بحرمانه من حريته".

"لكن المفهوم هنا هو أنه محروم من الحرية لكي يُعاقب داخل السجن. وهذا ليس فقط خطأ وإنما يعد عملاً إجرامياً. إنه تعذيب".

ويُنظر إلى سجن سيكوت من قبل الحكومة السلفادورية على أنه نهاية الطريق بالنسبة لنزلائه.

وقال وزير العدل والأمن العام غوستافو فيلاتورو لمراسل بي بي سي ويل غرانت في مايو / أيار الماضي: "لدينا التزام مع السلفادوريين بأن (سجناء سيكوت) لن يعودوا أبداً إلى مجتمعاتهم. وسنعمل على ضمان بناء القضايا الضرورية ضدهم لضمان عدم عودتهم".

وأضاف قائلاً: "بالنسبة لنا، يمثل سيكوت أكبر نصب تذكاري للعدالة بنيناه على الإطلاق. ليس لدينا ما نخفيه".

يبدو أن تعليقًا من الرئيس بوكيلي في شهر مايو/ أيار يضاعف هذا الالتزام.

وغرّد على تويتر قائلاً: "دع جميع منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية تعلم أننا سنقوم بمسح هؤلاء القتلة الدمويين والمتعاملين معهم، وسنضعهم في السجن ولن يخرجوا منه أبداً".

من غير المعروف كم عدد الأشخاص -إن وجدوا- من سجناء سيكوت الذين تمت إدانتهم رسمياً بالجرائم التي يُتهمون بارتكابها.

وطلبت بي بي سي من حكومة السلفادور تقديم تفاصيل حول الموجودين في السجن وعلى أي أساس هم محتجزون، وكيف سيستوعب 40,000 شخص، ولماذا لا يُعطى تأكيد لأقارب السجناء بنقلهم، لكنها لم تتلقى رداً على أسئلتها.

رسوم توضيحية تُظهر أن السلفادور لديها أكبر عدد من السجناء لكل فرد من السكان

قبل بضعة أسابيع، وصلت بي بي سي إلى أقرب نقطة يمكن الوصول إليها من السجن.

وقال لنا شرطي متمركز في المنطقة "ولا حتى إل تشابو يمكنه الفرار من هناك"، في إشارة منه إلى زعيم عصابة المخدرات المكسيكي الشهير المسجون، والذي قام في السابق بعدة عمليات هروب لا تُصدق من السجن.

تبلغ مساحة مجمع السجن حوالي 23 هيكتاراً (57 فداناً).

ويضم ثمانية مبان في كل مبنى 32 زنزانة.

هنالك مجموعتان من الأسيجة الخارجية المشبكة المكهربة بالكامل، و جداران من الاسمنت المسلح يحيطان بالسجن. ويبلغ محيط الجدار الخارجي 2.1 كيلومتر (1.3 ميل). وهناك 19 برجاً للمراقبة .

واعترف الشرطي بأن حياته تحسنت بشكل كبير خلال الأشهر الأخيرة.

"قبل ذلك، كان وقتي يضيع في إخراج أفراد العصابات من منازلهم، مع كل المخاطر التي يعنيها ذلك. الآن، أنا أقضي اليوم على نقاط التفتيش وحتى أنني أحياناً أجد الوقت لاحتساء القهوة".

ويبدو أن السكان القاطنين في الأحياء التي كانت تخضع في السابق لسيطرة العصابات مساندون بشكل خاص لسياسة الرئيس بوكيلي.

وقالت دينيس، التي تعيش في حي لا كامبينيرا في ضواحي العاصمة سان سلفادور، لبي بي سي: "هذا المكان لم يكن آمناً على الإطلاق إلى أن قام الرئيس بهذا العمل".

ومضت قائلة: "أعتقد أن نظام (الطوارئ) كان أفضل قرار يتم اتخاذه وأن هذا الرئيس هو أفضل رئيس حظينا به على الإطلاق".

ويتناقض مزاجها مع ماريا البالغة من العمر 23 عاماً، والتي التقينا بها في مكان ليس ببعيد عن سجن سيكوت، وذلك في منزلها الواقع في حي "إل مانياديرو". وقد عمل زوج والدتها ستة أشهر في بناء السجن، قبل أن يتم اعتقاله بسبب "ارتباط غير مشروع".

وتقول ماريا إنها لم تعد تجازف بالخروج من المنزل كثيراً. فصديقتها جيسيكا- وهي أم لطفلة عمرها ثلاثة أعوام- اعتُقلت هي الأخرى من قبل الشرطة التي أخذتها بعيداً بموجب نظام الطوارئ.

وتقول: "يبدو أن كون المرء شاباً قد بات جريمة الآن في السلفادور".

"سنضعهم في السجن ولن يخرجوا أبداً"- الرئيس بوكيلي

تحدثت بي بي سي إلى العشرات من أقارب السجناء المحتجزين بموجب ما يسمى بنظام "حالة الاستثناء"، والذين قدموا جميعهم إفادات متشابهة.

قالوا إن أحباءهم أُخذوا من بيوتهم - دون أن تُبرز لهم مذكرة تفتيش أو اعتقال- ونُقلوا إلى مراكز احتجاز أو سجون، ثم أُخضعوا لجلسات استماع جماعية في المحاكم عبر الإنترنت إلى جانب العشرات من المحتجزين الآخرين. وفي تلك الجلسات يأمر القاضي بالحجز إلى حين المحاكمة، بينما يحقق مكتب المدي العام فيما إذا كانت هناك أدلة تدعم توجيه اتهام رسمي- وهي عملية قد تستغرق أشهراً بل وحتى سنوات.

أطفال ينظرون عبر جدار أحد السجون في سان سلفادور

أطفال ينظرون عبر جدار أحد السجون في سان سلفادور

خلُص تقرير نُشر في مايو/ أيار من قبل "كريستوسال"، وهي منظمة غير حكومية رئيسية تُعنى بحقوق الإنسان في السلفادور، إلى أنه خلال العام الأول من تطبيق هذه الإجراءات، توفي العشرات من السجناء جراء التعذيب أو الضرب أو غياب الرعاية الصحية في السجون الأخرى في البلاد.

لم ترد الحكومة علناً على التقرير. لكن مفوض حقوق الإنسان في البلاد أندريس غوزمان كاباليرو، الذي تولى منصبه في 24 مايو/ أيار، اعترف خلال فعالية إعلامية في ذاك الشهر بأن التقرير "مثير للقلق".

وقال: "عندما يكون نزلاء السجن مؤلفين من عصابتين أو ثلاث، أو ثلاث جماعات، اشتبكت كثيراً فيما بينها، فإن ذلك سيكون له عواقب كزيادة عدد الوفيات- ويجب مراجعة أسباب تلك الوفيات في كل حالة على حدة".

وتقول منظمة "كريستوسال" إن سجن سيكوت يعد مصدر قلق خاص لأن من الصعب مراقبته.

وتقول زايرا نافاس، وهي المفتشة العامة السابقة للشرطة في السلفادور وتعمل الآن على رأس القسم القانوني في منظمة كريستوسال: "قد تصبح الظروف غير إنسانية ومهينة في سيكوت لأنه لا أحد يستطيع دخول ذلك السجن".

وتضيف: "لا يستطيع لا المحامون ولا أمين المظالم، ولا حتى وسائل الإعلام الدخول والتحقق من الظروف في الداخل".

أما بالنسبة لأنجيليكا، التي شاهدت زوجها في المقاطع المصورة من سيكوت، فقد أخبرتنا أنها تعتزم الآن الحصول على أي معلومات حول وضعه.

وتقول: "لا توجد طريقة أخرى غير مواصلة البحث.. أولادي وزوجي يريدون مني أن أفعل ذلك".